أبناء الدولة .. تشريح النفوذ وصناعة القرار

mainThumb

08-09-2025 03:55 PM

يشير مصطلح "أبناء الدولة" في سياقه التاريخي إلى مجموعتين رئيسيتين، المجموعة الأولى تشمل العرب الخراسانيين الذين انضموا إلى صفوف الثورة العباسية وكانوا النواة الصلبة التي ساعدت على إسقاط الدولة الأموية وتأسيس الدولة العباسية، بعد نجاح الثورة، شكّل هؤلاء النخبة الحاكمة والمؤثرة في الدولة الجديدة، ومن هنا جاء اسمهم "أبناء الدولة"، أما المجموعة الثانية فهي مصطلح عسكري يشير إلى كتلة نظامية في الجيش العباسي تشكلت في أواخر عهد الخليفة محمد المهدي وكانت مؤلفة من أبناء القادة العسكريين، ومن هنا أطلق عليهم نفس الاسم.

في المجمل يشير مصطلح "أبناء الدولة" بأنه يطلق على الأفراد الذين يمتلكون نفوذا قويا في دوائر صنع القرار سواء في القطاع العام أو الخاص، ويشكلون جزءا من السلطة.

الحديث عن "أبناء الدولة" في الأردن هو في جوهره حديث عن النخبة، هذه المجموعة ليست كيانا متجانسا بالكامل بل هي خليط معقد من عدة فئات مترابطة.
النخبة السياسية والإدارية: وتضم كبار المسؤولين في الحكومة وزعماء الأحزاب السياسية وقادة المؤسسات الرسمية، هؤلاء الأفراد بحكم مناصبهم يمتلكون سلطة تنفيذية وتشريعية مباشرة ويشرفون على إدارة شؤون البلاد.

النخبة الاقتصادية: وتتكون من كبار رجال الأعمال، وأصحاب الشركات الكبرى والمستثمرين الرئيسيين ويمتلكون ثروات طائلة وشبكات علاقات واسعة مما يمنحهم قدرة على التأثير في القرارات الاقتصادية وتوجيه السياسات المالية وحتى صياغة القوانين التي تخدم مصالحهم.

النخبة العسكرية والأمنية: وتشمل كبار القادة العسكريين والمسؤولين في الأجهزة الأمنية وهم يلعبون دورا حيويا في الحفاظ على استقرار الدولة وأمنها وغالبا ما يكون لهم صوت مسموع في القضايا الاستراتيجية والسياسية.

النخب الاجتماعية التقليدية: مثل وجهاء العشائر والقيادات الدينية التي تتمتع بنفوذ اجتماعي واسع ورغم أن دورهم قد لا يكون رسميا في مؤسسات الدولة إلا أن تأثيرهم على الرأي العام وتوجيه الرأي السياسي لا يمكن إغفاله.

هذه المجموعات المختلفة قد لا تعمل دائما بشكل موحد، لكنها تتقاطع في كثير من الأحيان، وتتشارك في مصالح رئيسية، مما يخلق شبكة من العلاقات المتبادلة تشكل "نخبة" قوية ومؤثرة.

دائما يثار في الأردن نقاش حول مدى تأثير المواطن العادي على القرارات الحكومية.. هل حقا يتمتع المواطنون بفرصة المشاركة في صنع القرار أم أن النفوذ يظل حكرا على النخبة ؟ هذا الجدل يمكن فهمه من خلال مقارنة نظريتين سياسيتين رئيسيتين.. فمن جهة، تؤكد نظرية النخبة أن السلطة الحقيقية تتركز في يد مجموعة صغيرة من "أبناء الدولة" الذين يمتلكون السلطة والثروة حيث تتخذ القرارات الكبرى لصالح هذه النخبة بينما تظل احتياجات عامة الشعب في مرتبة ثانوية، ومن جهة أخرى تفترض نظرية التعددية أن السلطة السياسية موزعة على نطاق واسع بين مختلف جماعات المصالح حيث يمكن للمواطنين التأثير في القرارات الحكومية من خلال الانتماء إلى النقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني والغرف التجارية، مما يشكل قنوات تواصل مع الحكومة وتجبر صناع القرار على الأخذ بمطالبها بعين الاعتبار.

في الواقع تكمن الحقيقة في نقطة وسط بين هاتين النظريتين، فالسياسة في الأردن هي نتاج تسويات معقدة بين المصالح المتعارضة.

في السنوات الأخيرة، شهد الأردن صعودا ملحوظا للخطاب الشعبوي الذي يشكل ردا على هيمنة النخبة، يركز هذا الخطاب على فكرة أن هناك "شعبا" بسيطا ومخلصا يتعرض للاستغلال من قبل "نخبة" فاسدة ومنعزلة عن الواقع، لا يرفض القادة الشعبويون إدانة النخبة السياسية فقط بل يوسعون دائرة اتهاماتهم لتشمل النخب الاقتصادية والإعلامية ويصورونهم ككيان واحد متجانس يعمل ضد مصلحة الوطن. لكن المثير للسخرية أن هذه الحركات الشعبوية غالبا ما تواجه تحديا كبيرا عند وصولها إلى مواقع السلطة فبمجرد أن تصبح جزءا من الحكومة تصبح هي نفسها "نخبة جديدة" وللحفاظ على مصداقيتها تغير خطابها فبدلا من انتقاد الحكومة تلقي باللوم على قوى خفية أو "الفساد المستشري" وتصورهم كأعداء يعيقون جهودها الإصلاحية.

بعد استعراضنا لصراع النفوذ بين النخب وجماعات المصالح وصعود الخطاب الشعبوي، يبرز السؤال: ما هو الحل؟ يبدو أن تجاوز هذا الجدل يتطلب الانتقال من النموذج القائم على التسويات السطحية إلى نموذج أكثر شمولية يركز على تحقيق أهداف إنسانية أساسية وهنا يأتي دور إطار سياسي جديد يهدف إلى تحقيق التوازن بين أربعة محاور أساسية:

التضامن: يعزز الروابط الاجتماعية والثقة بين أفراد المجتمع حيث يمكن للحكومة أن تدعم التضامن عبر الاستثمار في برامج الرعاية الصحية والتعليم العام، وتشجيع المبادرات المجتمعية التي تعيد بناء الثقة بين الناس.

الفاعلية: يمكن الأفراد من اتخاذ قراراتهم وتحمل مسؤولية حياتهم وهذا المحور يتطلب تعزيز أنظمة العدالة وحماية حرية التعبير والتفكير والاستثمار في التعليم الشامل الذي ينمي مهارات التفكير النقدي لدى الأجيال الجديدة.

المكاسب المادية: يضمن تلبية الاحتياجات الأساسية وتحقيق الرخاء الاقتصادي وعلى الرغم من أن هذا هو الهدف التقليدي للسياسات الحكومية إلا أن هذا النموذج يؤكد على ضرورة أن يكون النمو الاقتصادي شاملا ويستفيد منه جميع فئات المجتمع وليس النخبة فقط.

استغلال أمثل للموارد: يضمن استدامة الموارد الطبيعية وحمايتها للأجيال القادمة وهذا البعد ضروري لضمان الأمن البيئي والاقتصادي على المدى الطويل خاصة في بلد مثل الأردن يعاني من ندرة الموارد وخاصة المائية.

تبني هذا الإطار الجديد يمثل نقلة نوعية في التفكير السياسي فبدلا من التركيز على الناتج المحلي الإجمالي فقط كمعيار وحيد للنجاح يتم قياس التضامن والفاعلية والاستدامة بنفس الدقة والانتظام وهذا بدوره يجبر النخب على إعادة توجيه سياساتها لتكون أكثر شمولية.

هذا النهج لا يضمن نهاية الصراعات السياسية لكنه يعالج الأسباب الجذرية التي تغذيها مثل الفقر والبطالة وغياب التمكين واستنزاف الموارد وعندما تنجح الدول في تحسين أدائها في جميع جوانبها فإنها لا تحقق النمو الاقتصادي فحسب بل تعزز الاستقرار الاجتماعي والسياسي وتعيد بناء الثقة المفقودة بين المواطن و"الحكومات" بمفهومها الشامل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد