رسالة إلى كاتب سوري

mainThumb

27-09-2025 01:38 AM

في خضم العشرية السوداء التي شهدتها الجزائر، في تسعينيات القرن الماضي، طرأ أدب جديد يبتغي تدوين اللحظة، ويسعى إلى توثيق الأحداث التي تجري على الأرض، بملاحقة الدماء التي سالت على الأرصفة، أو في الأزقة، مع تدوين شهادات الناجين، أو تخيل حيوات الضحايا، فقد كان الكاتب شاهدا على ما يحصل، يعيش ما يعيشه إنسان عادي من البلد، والكاتب نفسه كان على رأس المطلوبين من طرف الجماعات المتطرفة، بل إن العشرات من الصحافيين وكذلك من الكتاب التحقوا بركب الضحايا في تلك السنين المظلمة. لم يكن الوقت يتسع من أجل كتابة مهادنة، لأن الموت كان يطوف بين الرؤوس، ولأن البلاد تموج في خطر، والكاتب يعلم أن أجله يدنو، وأنه يبعد خطوة عن كفنه، ومن المحتمل أن يلقى مصيره في اليوم التالي.

تراجعت في تلك الحقبة سطوة الرقابة، لأن السلطة لم تبال بما يدور في شؤون الآداب والفنون، بل انشغلت بإنقاذ سفينة البلاد من الغرق، وعندما تتراجع الرقابة خطوة إلى وراء، تزهر المخيلة ويتحول الأدب إلى ملعب حريات. ولن نجانب الصواب إذا قلنا، إن عشرية التسعينيات كانت من أكثر المراحل وفرة في الإنتاج الأدبي، في الجزائر، وهي وفرة رافقتها كذلك نوعية وجودة في الكتابات. من غير أن ترافقها متابعة نقدية. كان الكاتب يصدر عملا ثم يمضي إلى آخر من غير أن ينتظر ردود ناقد أو قارئ، فالوقت لم يكن يحتمل الانتظار. لكن العجيب في الأمر، بعدما قررت السلطة مصالحة وطنية، ترتب عنها تراجع الجماعات المسلحة، التي أوقفت النار وتنازلت عن السلاح، بعد استفادتها من عفو، ومباشرة عقب هذه اللحظة، طرأ خطاب جديد بين الأوساط الأدبية، يسعى إلى التقليل من شأن الأعمال الروائية والقصصية التي ظهرت في غضون العشرية السوداء. وجرى توصيف تلك الكتابات على أنها «أدب استعجالي»، أي أنها كتابة من غير تريث. وهو مصطلح يضمر سخرية من كل من كتب عن المجازر التي حصلت وعن دماء الأبرياء. مع الوقت صار بعض الكتاب يخجلون من أعمالهم السابقة، ولا يتحدثون عنها، يخجلون أنهم كتبوا عن تراجيديا العشرية السوداء، كما لو أنهم ارتكبوا جرما.

ثم سادت فكرة أن من يعود إلى العشرية السوداء ويكتب عنها، مرة فإنه يعارض السلطة، التي أرادت طي الصفحة. كما ودت محو المرحلة من الأذهان ومن المخيلة، فقد انبرى كتاب في الطعن في زملائهم وفي تسفيه أعمالهم عن حقبة التسعينيات، ثم توالت سنين وصرنا في مواجهة جيل جديد بالكاد يعرف ماذا وقع من فظائع، بحكم أن المكتبات قد أفرغت من أعمال عن تلك الحقبة، بل إن الأمر تعدى الأدب إلى السينما، ولم نعد نصادف فيلما واحدا يستعيد ذلك الماضي القريب، وما شابه من آلام ومحن. يبدو أن هذا المشهد يتكرر في سوريا. فقد علت أصوات، في الأيام الأخيرة، تقلل من شأن كتاب سوريين، وتسفيه أعمالهم، بحكم انشغالهم في السنين الأخيرة في تدوين روايات عن المأساة التي عمت البلاد قبل 2024. تعالت أصوات في التقليل من شأن الكتاب السوريين لأنهم رافقوا أبناء شعبهم، ووثقوا التراجيديا التي حصلت في زمن بشار الأسد. ويبدو أن هنالك رغبة في محو ما كتب عن هذا الزمن السوري، والتخلص منه في سلة المهملات، بل إن التجريح وصل ذروته في تجريد تلك الروايات من قيمتها الأدبية، لا لسبب سوى أنها لم تغمض عينيها عما عاشه الناس من دماء ومن فظائع.

تتسع الرؤية ويزداد فهم الحرب الأهلية في إسبانيا (1936-1939) بفضل روايات كتبت من داخل تلك الحرب (على غرار رواية «الأمل» لأندري مالرو)، كما إننا نفهم ما وقع من استبداد في أمريكا اللاتينية، بين الخمسينيات والثمانينيات من القرن الفارط، بفضل روايات عن الديكتاتوريات كتبت وصدرت في تلك السنين. كما إننا نعرف الثورة الثقافية في الصين، بفضل كتاب محليين دونوا مجريات الأحداث بعين الشاهد. ولا يزال الكتاب في أوروبا يعودون إلى الحرب العالمية الثانية، مستفيدين من أعمال كتبت من داخل الحرب، أو بعدها بقليل، على غرار مذكرات آن فرانك، أو بفضل أعمال جان بول سارتر من روايات أو مسرحيات. ولم نسمع من يسفه كتابات آن فرانك بحكم أنها طفلة، أو من يطعن في أعمال سارتر، هل يمكن التقليل من شأن رواية «الطاعون» لألبير كامو، لمجرد أنها رواية كتبت في حقبة عسيرة في محاكاة الممارسات النازية؟ هل سبق أن أساء أحدهم إلى كتابات سارتر من منطلق أنها أدب ملتزم؟

ففي الجزائر عندما كان محمد ديب، أو كاتب ياسين، أو مولود معمري، أو آسيا جبار يكتبون عن الحدث الذي يجري أمام أعينهم، ونقصد منه وقائع الاستعمار وحرب التحرير، لم يتطاول عليهم أحد من مواطنيهم بالقول إن أعمالهم تدخل في باب «أدب استعجالي»، والسبب أن السلطة في حد ذاتها تبنت حرب التحرير وجعلت منها ركيزة في تاريخ البلاد. وعندما طوت السلطة نفسها، ملف العشرية السوداء، فقد صار من كتب عنها تجري الإساءة إليه، ويخرج من حيز الأدب.
ونتخيل مأزق كاتب من سوريا في الأثناء، هل يواصل الكتابة عما جرى أمام عينيه؟ هل ينحاز إلى المنطق في الكتابة عن المأساة؟ أم عليه أن يغير من مواضيع الكتابة من أجل إرضاء فئة بعينها؟ نظن أن الأصلح هو أن ينحاز الكاتب إلى الإنسان السوري، إلى هشاشته في عالم يتداعى. أن يكون صوتا للضحية لا للجلاد. أن يوقن بأن الأدب ليس الغرض منه متعة فحسب، أو مجرد خدمة رأي ضد آخر، بل من مهام الأدب كذلك حفظ الذاكرة. وشعب بلا ذاكرة إنما هو شعب لا يُتكل عليه. لا بد على الكاتب في سوريا ألا يكرر الخطأ الذي وقع فيه كتاب من الجزائر، الذين انخرطوا في عربة الأقوى، نسوا ما عانى منه الناس، ثم تصالحوا مع الجلاد القديم وانصرفوا عن الكتابة عن العشرية السوداء.

كاتب جزائري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد