الشهيد وصفي التل .. الفارس الذي هزم الغياب

الشهيد وصفي التل ..  الفارس الذي هزم الغياب

27-11-2025 10:57 PM

هناك رجال يرحلون، ويبقى الوطن يردد اسمهم في الصمت، كأنه يخاطبهم في الغياب. وهناك أيام لا تنطفئ مهما امتد الزمن، تظل مشتعلة كجمر تحت الرماد. الثامن والعشرون من تشرين الثاني ليس يوما عاديا، بل يوم يلبس الوطن فيه السواد، يوم يستعيد وجعه، ويستحضر رجلا لم يغادر روحه. يوم استشهاد الشهيد وصفي التل حدث لا ينسى، جرح مفتوح يزيده الزمن حضورا ومرارة.

الشهيد وصفي التل لم يكن رئيس حكومة عادي، بل كان مشروع نهضة كامل. رجلا جمع بين صرامة القيادة ورهافة القلب، بين رؤية الدولة والعمل اليومي، بين حب الوطن وخدمة الانسان. آمن ان النهوض لا يبدأ بالخطابات، ولا بالوعود، بل بالإنسان، بوعيه وبإيمانه بأن الوطن قادر على صناعة مستقبله اذا امتلك إرادته.

وفي سنوات قليلة، ترك خارطة طريق مكتملة لوطن يريد ان يكبر. الجامعة الاردنية، قناة الغور الشرقية، سد الملك طلال، الخط الصحراوي، مستشفى الجامعة، تطوير مستشفى البشير، محطة الاقمار الصناعية، وشركات البوتاس والفوسفات. لم تكن مجرد انجازات ادارية، بل كانت شواهد على عقل يخطط بصلابة، ويد تعمل بصدق، ورؤية ترى ابعد من اللحظة.

كان الشهيد وصفي التل قريبا من الوطن، قريبا من الناس، اختار ان يكون بينهم لا فوقهم. خصص يوما كاملا كل اسبوع لاستقبال المواطنين، يجلس معهم، يستمع اليهم، يلمس همومهم، ويعيد العلاقة بين المسؤول والوطن الى معناها الحقيقي. كان يؤمن ان الدولة التي تبتعد عن مجتمعها تفقد قلبها، وان القائد الحقيقي هو من يشعر بنبض الوطن من الميدان لا من المكاتب.

ولم يكن اهتمامه بالأرض اقتصادا فقط، بل امتدادا لقيم وطنية آمن بها طوال حياته. كان ملتزما بالمسؤولية العامة، وبمفهوم العمل المشترك، وبأن احترام القوانين والواجبات الوطنية هو الطريق لبناء دولة قوية مستقرة. لذلك بقي حضوره اكبر من منصبه، واكبر من حدود زمنه.

ثم جاء يوم الثامن والعشرون من تشرين الثاني، يوم هز الوطن كله. اغتيل الشهيد وصفي التل غيلة، ورحل واقفا كما عاش، بثوب العز الذي لم يخلعه يوما. ظن قاتلوه انهم باطفاء حياته سيطفئون اثره، لكنهم اخطأوا. فقد ترك وراءه صفحة وطن كاملة، ونهجا مستمرا، وغيابا كلما طال صار حضورا اعمق.

رحل الشهيد وصفي التل، وبقيت البلاد تستشعر غيابه. بقي منصبه كما هو، واقفا كأنه ينتظر رجلا يشبهه. رجلا يملك صلابته ووضوحه واستقامته وجرأته النظيفة. ومع كل ذكرى، يعود السؤال في الوجدان الاردني،كيف لغياب ان يكون بهذا الحجم، وكيف لحضور ان يبقى رغم رحيل صاحبه.

ولان الوطن لا ينسى فرسانه، ظلت الذاكرة تستدعي حضوره، كأن الطرقات ما زالت تحفظ خطواته، وكأن صوته ما زال يتردد في المكاتب والحقول والبيوت، يا مهدبات الهدب غنن على وصفي.

وتأتي قصيدته الخالدة في نهاية النص كأنها ختم الشهادة، وكأنها تصعد من ذاكرة الشعب لا من الورق.

تخسى يا كوبان ما انت ولف إلي
ولفي شاري الموت لابس عسكري
يزها بثوب العز واقف معتلي
بعيون صقر للقنص متحضري

رحم الله الشهيد وصفي التل، الفارس الذي هزم الغياب، وبقي اسمه كل عام يكتب بالسواد، وبالهيبة، وبمحبة لا تذبل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد