إلى الأبد … على طريقتي

mainThumb

05-08-2025 09:42 AM

واحدة من أهمّ المميزات في كل شارع عراقي، وربما على المستوى العربي أيضاً، هي وجود بيت الجيران الطيبين؛ أولئك الذين يشرعون أبواب بيوتهم لكل من يصادف وجوده في المنطقة، ويتحول شيئًا فشيئًا إلى مرتعٍ لأطفال المحلة كاملةً.
هذا ما حصلَ معي في بيت أم هيثم جارتنا، الذي كان بيتها مليئًا بالأطفال الذين يُحرمون عادةً من القفز على الأرائك في بيوتهم، ويؤمرون بتخفيض أصواتهم في الظهيرة، ويُمنعون من الدخول إلى غرفة نوم الآباء لأي سبب كان.
لكن في بيت أم هيثم كان الأمر مختلفًا تمامًا؛ كان أطفال الحي يدخلون غرفتها، ويجربون الميك آب خاصتها وأحذيتها الأنيقة، حتى ملابسها لم تسلم من هذا الهجوم الغوغائي على حاجاتها الثمينة.
بالطبع، كنتُ ضمن الشلّة ذاتها، التي تقفز بلا توقّف على الأرائك، فأرتدي ثيابها الكبيرة جدًّا على مقاسي، وأقف على الطاولة الوسطية، حاملةً فرشاة الشعر، وأشرع بالغناء «لجمهوري الحبيب» وهم كلّ أطفال المحلّة المتبرّمين، بالإضافة إلى صوتي الكارثي؛ أغني كما لو كنتُ أم كلثوم زماني.
تعلّقتُ ببيتهم؛ بتلك الحريّة التي لا تتحقق لطفل يعيش مع أبوين صارمين في التربية.
ارتبطت روحي بهم، وبهذا البيت الذي يشبه الحياة حين تُمنح للطفل بلا شروط.
في إحدى المرات، لمعت في رأسي فكرة جديدة؛ أن ألجَ نحو «المعنى». لم تعد تهمّني ألعاب الأطفال ولا نشاطاتهم، وكنت أجلس بينهم وأفكّر، رغم عمري الصغير: ما السبب من وجودي في هذه الحياة؟
وأدركت، بحدس الطفولة البريء، أن ثمة غرفة سريّة لا يدخلها الأطفال عادة، لأنها عبارة عن مكتبة عظيمة وواسعة، محشوة بالروايات وكتب التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس..
لكن كانت هناك أيضًا مكتبة أخرى صغيرة، قرب المطبخ، لم ينتبه إليها أحد بعد.
كنت أهرع إلى تلك المكتبة الصغيرة، ولأنني لم أكن أستطيع تناول الكتب من ذلك العلو نظرًا لحجمي المتواضع، اضطررت إلى الاكتفاء بما أستطيع الوصول إليه.
وعندما وجدت عالم القراءة، علقتُ به بجنون، وصرت أقرأ بلا توقف، وأنهل مما يثير الدهشة والإعجاب من أدب المدرسة المصرية: بين نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، انتقالًا إلى ديستويفسكي وأغلب الأدب الروسي.
لقد حدث ذلك فعلاً، وكأنني ضربتُ جذوري في أرضهم بقوة.
بتُّ لا أفارق منزلهم، وعندما أقرأ مشهدًا سعيدًا، أدور حول البيت وأقفز فرحة!
لقد نفد صبر الخالة أم هيثم وولدها الصغير من هذه الإزعاجات اليومية، بالصوت العالي والحركات البهلوانية عندنا أفهم معنى أو جملة؛ وكأنني تذكّرتها للتو ولم أصطدم بها للمرة الأولى. عرفتُ منذ ذلك الوقت أن المعرفة كامنة في الإنسان، وأن فهم جملة واحدة ما قد تتسبب في سعادة مفرطة، كأنه تذكّرها فحسب.
وبسبب كثرة تكرار إزعاجاتي بين القراءة من جهة، وتقمّصي الكامل لشخصية أحبّها من جهة أخرى، دقّ ناقوس الخطر عند أهلي، وطلبوا من الخالة أم هيثم أن تمنعني من دخول منزلهم في وقت الظهيرة.
ولأنهم جميعًا يعرفون فرط حساسيتي التي لا تقبل الإهانة بأيّ شكل من الأشكال، كانت المهمة ثقيلة جدًا عليهم. حتى تجرأ أحد أبنائها ودفعني فعلاً خارج المنزل. غضبتُ غضبًا ليس معتادًا.
تمنيتُ حينها أن يتحول إلى ضفدع تخشاه الناس، مليون قبلة من مليون أميرة لن ترده إلى بشريّته.
خرجت باكية، وقلت لهم جميعًا، بغضب عارم:
«لن أقبل أن أزوركم بعد الآن! لن تشاهدوني في بيتكم مرة أخرى، ولا حتى يمكنكم رؤية طيفي في أحلامكم! لقد خاصمتكم… وإلى الأبد!».
عدتُ إلى منزلي مكسورةً من ثقل الموقف، أجر أثقال الخيبة والفضول، ولأني لم أُكمل رواية «وثالثهما الشيطان» لنجيب محفوظ، فقد مزقني العطش الفكري والدرامي. كنت أعيش بين شخصيات الرواية، على الرغم أن ليس هناك أملّ من معرفة النهاية.
ببنطالي الأصفر، وقميصي الوردي، وقبعتي الخضراء، عدت إليهم مرّة أخرى، أتمشى بتبختر جنرال منتصر مثل نابليون بونابرت.
قرعتُ الجرس بإلحاحٍ منفّر، وخرج الجميع مدهوشين:
«ألم تقولي بأنكِ لن تقبلي برؤيتنا بعد اليوم، وإلى الأبد!؟».
بصراحة، لم أخجل. رفعتُ رأسي بشموخ الطفل الساذج وقلت لهم: «لقد قصدتُ بالأبد في جملتي؛ هو حتى وقت الانتهاء من قراءة الكتاب! لا يوجد شيء يُسمى إلى الأبد بالوعد، فأبديتي تشمل السنين ربما، إلّا في شرطٍ واحد فقط:
أن تكون في المعرفة والفن، لأنهما معي مرتبطَان بأبديّةٍ سريعة للغاية، لا تتعدّى العشر ثوانٍ فقط.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد