جامعات الأردن بين أزمة الواقع وفرص التحول

mainThumb

07-09-2025 11:32 PM

لم يعد التعليم العالي مجرد أداة لإنتاج الشهادات، بل أصبح معيارًا لقياس قدرة الدول على مواكبة المستقبل وصناعة التنمية. غير أن التجربة الأردنية تكشف عن فجوة واسعة بين الغاية المرجوة والواقع المعاش؛ إذ يُفترض أن تكون الجامعات مصانع للعقول ومراكز للابتكار، لكنها في كثير من الأحيان تتحول إلى مؤسسات لتخريج جيوش من العاطلين، نتيجة غياب التخطيط الاستراتيجي وضعف ربط البرامج الأكاديمية بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية.

من أبرز ملامح الأزمة هيمنة البرامج التقليدية على حساب التخصصات الحديثة. فما تزال كليات الإدارة والحقوق والآداب تستقبل أعدادًا تفوق احتياجات السوق، بينما التخصصات المرتبطة بالثورة الرقمية والطاقة النظيفة والأمن السيبراني ما تزال محدودة. هذا التشبّع لا يُفرز فقط فائضًا في الخريجين، بل يعمّق مشكلة البطالة الهيكلية التي يعاني منها الأردن حيث تتجاوز نسبتها بين الشباب الجامعي 25%، في حين تصل في مصر إلى نحو 36% وفق تقارير البنك الدولي، وتنخفض إلى أقل من 12% في بعض دول الخليج التي نجحت في مواءمة التعليم مع سوق العمل. هذه المقارنات تكشف حجم الفجوة وتضع التجربة الأردنية أمام مسؤولية عاجلة لإعادة التفكير بمسارها.

تظل الفجوة بين الجامعات وسوق العمل واحدة من أخطر التحديات. فالمناهج تُبنى بعيدًا عن قراءة حقيقية لاحتياجات الاقتصاد المحلي والإقليمي. النتيجة أن الطالب يتخرج وهو يحمل معرفة نظرية أكثر مما يحمل مهارة عملية، وحتى في التخصصات التطبيقية يغيب التدريب الميداني الذي يُكسب الخريج خبرة حقيقية تجعله جاهزًا للانخراط في سوق العمل.

ولا يمكن الحديث عن جامعة فاعلة دون بحث علمي رصين، لكن تمويل البحث في الأردن لا يتجاوز 0.5% من الناتج المحلي، بينما المعدلات العالمية تصل إلى أكثر من 2%، وفي دول رائدة مثل كوريا الجنوبية تتجاوز 4%. والأخطر أن ما يُنتج من أبحاث يذهب في الغالب إلى نشر أكاديمي محدود الأثر، بدل أن يُسهم في حل مشاكل المياه والطاقة والبطالة أو في تطوير الصناعة الوطنية.

وفي المقابل، تقدم بعض الدول العربية نماذج ملهمة في ربط الجامعات بسوق العمل. فالسعودية مثلًا، ضمن رؤية 2030، أعادت هيكلة التعليم العالي ليتماشى مع احتياجات الاقتصاد الرقمي والطاقة المتجددة، وارتفعت نسبة الإنفاق على البحث والتطوير إلى ما يقارب 1% من الناتج المحلي، مع إنشاء جامعات متخصصة مثل "جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية" التي باتت مركزًا إقليميًا للأبحاث. أما الإمارات فقد اعتمدت سياسة جذب جامعات عالمية رائدة مثل نيويورك والسوربون، وأطلقت مناطق تعليمية حرة تحتضن مراكز ابتكار وشركات ناشئة يقودها الطلبة. هذه التجارب تبرهن أن الإصلاح ممكن حين يتوافر وضوح الرؤية والتكامل بين الدولة والقطاع الخاص.

منذ مطلع التسعينيات، اتجهت الجامعات إلى التوسع الكمي بإنشاء جامعات جديدة واستيعاب أعداد أكبر من الطلبة، لكن هذا التوسع لم يُقابله تطوير نوعي في البرامج أو الكوادر أو البنية التحتية. بل إن بعض الجامعات الخاصة تحوّلت إلى مشاريع تجارية همها الأول تحصيل الأقساط، وهو ما انعكس على جودة المخرجات.

ويُضاف إلى ذلك أزمة الحوكمة الجامعية، إذ كثيرًا ما تتغلب البيروقراطية والمحسوبية على الكفاءة في التعيينات والترقيات، مما يضعف بيئة الإبداع والشفافية. كما أن غياب مؤشرات قياس أداء واضحة، مثل نسبة توظيف الخريجين أو عدد براءات الاختراع، يجعل الجامعات تعمل بلا بوصلة استراتيجية.

أما المناهج وأساليب التدريس فما تزال تعتمد على التلقين والحفظ أكثر من التحليل والابتكار. وحتى مع تجربة التعليم الإلكتروني خلال جائحة كورونا، لم تستثمر الجامعات بالشكل الكافي في تطوير منصات رقمية حديثة أو مناهج تفاعلية، وظل الطالب أسير الامتحان الورقي بعيدًا عن مهارات القرن الحادي والعشرين التي يتطلبها الاقتصاد الرقمي.

مع ذلك، لا يمكن إنكار أن الأردن بدأ مؤخرًا في مراجعة سياسات التعليم العالي، فقد أُطلقت خطة التعليم العالي 2023–2027 التي تتضمن إعادة النظر في التخصصات وتشجيع البحث العلمي وتعزيز التعاون مع القطاع الخاص. كما بُذلت محاولات لتطوير التعليم التقني والمهني عبر كليات المجتمع. هذه الجهود لا تزال في بدايتها، ولم تحقق سوى نسبة إنجاز محدودة تقدر بحوالي 30–40% من الأهداف المعلنة، لكنها تعكس وعيًا رسميًا بضرورة التغيير، وإن كان التطبيق يواجه تحديات التمويل والعقلية التقليدية وضعف التنسيق المؤسسي.

للنهوض بالجامعات، لا بد من حزمة إصلاحات جذرية تبدأ من وقف استحداث التخصصات المشبعة وربط البرامج بدراسات سوق عمل وطنية وإقليمية، مرورًا برفع تمويل البحث العلمي إلى 1% على الأقل من الناتج المحلي خلال خمس سنوات، وصولًا إلى إلزام الجامعات ببرامج تدريب عملي حقيقي، وإنشاء حاضنات ابتكار تدعم ريادة الأعمال الطلابية. كما يجب وضع حوافز ضريبية للقطاع الخاص كي يستثمر في البحث والتعليم، وإلزام الجامعات بقياس مؤشرات التوظيف ومخرجات التعلم بشكل دوري.

إن التعليم العالي في الأردن يمرّ بمفترق طرق؛ فإما أن يبقى أسيرًا للبيروقراطية والتقليدية، أو أن يتحول إلى قوة إنتاج معرفي واقتصادي. المطلوب ليس المزيد من الشهادات، بل المزيد من العقول القادرة على التفكير والابتكار والمنافسة عالميًا. وعندما تدرك السياسات التعليمية أن الهدف ليس فقط تخريج موظفين، بل صناعة قادة ورواد أعمال وعلماء، عندها فقط يمكن القول إن الجامعات بدأت استعادة رسالتها الأصلية: بناء الإنسان وبناء المستقبل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد