قيم الابداع والاتباع عند الشباب

mainThumb

14-09-2025 09:30 PM

في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، أصبح الجدل القديم حول التوازن بين قيم الإبداع والامتثال أكثر من مجرد نقاش فكري، بل تحول إلى سؤال عملي يواجه المجتمعات: أي القيم نحتاج أكثر، ومتى، وكيف يمكننا تنمية هذه القيم لدى الجيل القادم؟ فقيم الإبداع والامتثال ليسا نقيضين مطلقين، بل آليتان اجتماعيتان تخدمان غايات مختلفة. فالامتثال، أي الميل إلى التوافق مع الجماعة في الأفكار والسلوك، يساعد على نقل الثقافة، تقليل الصراعات، والحفاظ على الانسجام الاجتماعي. أما قيم الإبداع، وهو القدرة على إنتاج أفكار جديدة ونافعة، فيدفع عجلة التقدم العلمي، يحل المشكلات المعقدة، ويغني الثقافة الإنسانية. كلاهما ضروري، لكن قيمتهما النسبية تتحدد بحسب السياق: في الأعمال الروتينية أو في أوقات الحاجة إلى التنسيق الصارم يبرز الامتثال، بينما في مواجهة التحديات الجديدة وعدم اليقين، يصبح الإبداع ضرورة ملحة.
لقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن الإبداع ليس رفاهية فردية أو مقصورًا على مجالات الفنون، بل هو خير عام للمجتمع. فالإبداع يسهم في النمو الاقتصادي، والاكتشافات العلمية، والمرونة الاجتماعية، كما يرتبط على المستوى الفردي بالصحة النفسية والشعور بالمعنى والرضا عن الحياة. الأطفال والشباب الذين ينخرطون في أنشطة إبداعية يحققون إنجازًا أكاديميًا أفضل، ويتمتعون بقدرة أكبر على التكيف وحل المشكلات بمرونة.
في المقابل، يظل للامتثال دوره الإيجابي؛ فهو يعزز التعاون وينظم سلوك الجماعات ويمنع الفوضى. غير أن المبالغة فيه تحمل مخاطر واضحة: كبت التنوع الفكري، تقييد النقد، وخنق الابتكار. المجتمعات التي تكرّس قيمة الطاعة وحدها قد تجد نفسها عاجزة عن إنتاج الأفكار الجديدة التي تحتاجها لمواجهة الأزمات.
لكن الأبحاث تؤكد أن العلاقة ليست صفرية بين قيم الإبداع والامتثال. فالتعاون الخلّاق يحتاج بدوره إلى حد أدنى من القواعد المشتركة والثقة المتبادلة. في البيئات التي تجمع بين الأمان النفسي والحرية المنظمة، يمكن للطلاب أو الموظفين أن يتشاركوا في توليد الأفكار الجديدة دون أن يضيعوا في الفوضى. التحدي إذن ليس القضاء على الامتثال بل إعادة صياغته ليكون أداة تمكّن من تنوع الأفكار بدل أن يخنقه.
وعندما ننظر إلى سبل تنمية القيم الإبداعية لدى الشباب، تظهر عدة مسارات مدعومة علميًا. أولها التدريب المباشر على التفكير التباعدي والقدرة على توليد حلول متعددة، وهي مهارات قابلة للتعلم خاصة في مرحلة الطفولة والمراهقة حيث المرونة الذهنية في أوجها. ثانيها اللعب الإبداعي، الذي يدمج بين الخيال والتفاعل الاجتماعي، ويعزز في الوقت نفسه القدرة على التعبير والتعاون. وثالثها الممارسات الصفية التي تمزج بين الهيكلية والحرية: منح الطلاب مسائل مفتوحة النهاية، تدريبهم على استراتيجيات توليد الأفكار، وخلق بيئة آمنة تحتمل الخطأ كمحاولة للتعلم لا كفشل.
كما أن تنويع الخبرات التعليمية عبر الدمج بين الفنون والعلوم والأنشطة البدنية يوسّع من شبكة الترابطات الذهنية ويثري مهارات التفكير. وتشير الدراسات إلى أن الدافعية الداخلية، أي الرغبة في التعلم بدافع الفضول والمعنى، هي من أقوى محركات الإبداع، بعكس البيئات التي تفرض قيودًا خارجية أو مكافآت صارمة تقيد حرية الطالب.
على هذا الأساس، يمكن للآباء أن يساهموا من خلال إتاحة وقت للعب الحر، وتشجيع الفضول، والاحتفاء بالمحاولة حتى لو لم تكلل بالنجاح. أما المدارس فعليها أن توازن بين المعرفة والابتكار عبر مشاريع مفتوحة، دمج الفنون بالحياة الدراسية، وتطوير أدوات تقييم تكافئ الأصالة والتجريب. وصنّاع السياسات مدعوون إلى دعم المعلمين بالبرامج التدريبية، وإعادة تصميم أنظمة التقييم بحيث لا تختزل قيمة الطالب في الامتثال وحده، بل تشمل قدرته على التفكير النقدي والإبداعي.
ولا يمكن إغفال البعد الثقافي، فمعايير الإبداع تختلف بين المجتمعات. في بعض البيئات يُنظر إلى الجرأة الفكرية كقيمة إيجابية، بينما في أخرى يُقدَّر الالتزام بالتقاليد أكثر. لذلك، ينبغي أن تكون البرامج الموجهة لتنمية الإبداع حساسة للسياق الثقافي والاجتماعي، بحيث تستثمر الفنون المحلية، الحكايات الشعبية، والتحديات المجتمعية كمنطلق للمشاريع الإبداعية.
في النهاية، يبقى الامتثال والإبداع معًا عنصرين أساسين لاستقرار المجتمعات وتجددها. والنجاح الحقيقي يكمن في تنشئة جيل قادر على أن يعرف متى يتطلب الموقف التعاون والانضباط، ومتى يحتاج إلى الجرأة وكسر المألوف. إن الاستثمار في الإبداع لدى الأطفال والشباب ليس ترفًا، بل هو ضرورة لضمان مرونة المجتمعات في مواجهة مستقبل مليء بالتحديات والتغيرات المتسارعة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد