كيف تعالج المدن أبناءها

mainThumb

07-10-2025 10:00 AM

عام 2018، في لندن تحديداً، احتجزتني صديقتي في مكالمة هاتفية دولية تجاوزت الثلاث ساعات. كانت تبكي بحرقة كأنها تودع عالماً كاملاً انهار بين يديها. كانت صدمة عاطفية أرهقتها، حكاية حب كبيرة انتهت فجأة، وتركت خلفها فراغاً يصعب تسكينه. حاولت جاهدة أن أهدئها، أن أزرع في صوتي ما يشبه الطمأنينة، لكن بكاءها كان يخرق المسافة، يمتد عبر الأسلاك إلى غرفتي الضيقة في الفندق ويستوطن صدري.
وحين أغلقت الخط أخيراً، شعرت أن الدموع التي أفرغتها في أذني بقيت في روحي. نزلت مسرعة من الغرفة، أبحث عن شيء يبرد رأسي. خرجت إلى الشارع المبتل، كانت لندن تغتسل بالمطر وتتنفس ببطء. احتجت إلى هواء بارد يوقظني من أثر تلك المكالمة الطويلة، إلى نسمة تجمد دموع صديقتي التي تسللت إليّ خفية.
مشيت حتى وصلت إلى الجادة المجاورة، وهناك توقفت أمام أول حافلة حمراء مرت بي. صعدت بلا وجهة محددة، كأنني أهرب من صوتها الذي ما زال يتردد في ذهني. جلست قرب النافذة، والمدينة من حولي تتجمد خلف الزجاج. كانت الوجوه ساكنة، والمطر يطرق الزجاج بإيقاع غامض، بينما كانت الحياة تمضي غير عابئة بانكسار أحدهم في مكان ما من العالم.
عندها لمحت عبارة مكتوبة على الحافلة بخط أنيق لامع:
«عندما تسوء علاقتك بأحدهم، ارفعي رأسك عالياً، وارسمي ابتسامة ساحرة على شفتيك، وجهزي لنفسك الكوكتيل من أطيب الفواكه، وانطلقي».
توقفت للحظة. تذكرت حالاً أن هذه العبارة مأخوذة من رواية للكاتبة البريطانية صوفي كينسيلا، تلك التي كتبت قصة «لارا» الفتاة العشرينية التي فقدت حبيبها ووظيفتها، ثم ظهر لها شبح عمتها ليقودها نحو تصالح جديد مع الحياة. كانت العبارة كأنها إضاءة ناعمة وسط المدينة الرمادية. مدينة تتزين بعبارة أدبية، وتضعها في الشوارع كإشارة إنسانية تقول للمارين: «نراك، نعرف وجعك، ونذكّرك بأن الحياة ما زالت جديرة بالابتسامة».
تمنيت لو أن صديقتي كانت معي. لو أنها رأت هذه الجملة مطبوعة على واجهة حافلة، في اللحظة نفسها التي كانت تصرخ فيها من الألم، لربما ابتسمت، لربما شعرت أن القدر يرسل لها إشارة من بعيد، أو أن المدينة نفسها تحاول احتضانها. كم نحتاج نحن العرب إلى مدن تكلّمنا بهذا اللطف، إلى أرصفة تمسح على أرواحنا بدل أن تدهسها.
الأدب ليس رفاهية، إنه طريقة المدن في التحدث مع ساكنيها. حين يتحول النص الأدبي إلى مشهد بصري في شارع عام، يصبح جزءاً من دورة الحياة. الكلمة المعلقة على حافلة قد تنقذ إنساناً من الانهيار أكثر مما تفعل خطبة سياسية أو لافتة حزبية. تخيلت لو أن بغداد مثلاً، مدينتي، تعلق على جدرانها عبارات من شعر السياب، أو من رسائل غائب طعمة فرمان، أو من حكايات شهرزاد. كم كان يمكن أن يبدو وجهها مختلفاً.
نحن بحاجة إلى هذا الترفق الإنساني، إلى أنسنة المدن، إلى أن يصبح الأدب جزءاً من الحياة اليومية، لا حبيس مكتبات النخبة. لو كانت المدن التي نعيش فيها تتنفس الفن كما تتنفس الغبار، لربما صرنا أكثر رقّة ووعياً وتسامحاً. لو أن الأرصفة تحدث المارة بلغات أدبية، لربما توقف أحدهم قبل أن يؤذي آخر، أو كتب رسالة حب بدل أن يطلق رصاصة.
لطالما آمنت أن المدن التي تعانق الأدب لا تموت. الأدب يعلمها كيف تحب أبناءها، والفن يعلمها كيف تصغي لهم. نحتاج إلى ممحاة كبيرة تمحو كل الشعارات السياسية التي تتعفن على الجدران، وتستبدل بها عبارات تنعش القلب وتعيد توجيه الوعي الإنساني. مدننا مكتظة باللافتات التي تذكرنا بالولاء والخوف والانتماء، لكنها نادراً ما تذكرنا بالحب أو الفقد أو جمال الحياة.
حين غادرت الحافلة تلك الليلة، كنت قد هدأت. لم أعد أفكر في حزن صديقتي بقدر ما كنت أفكر في تلك الجملة التي علقتها لندن على حافلاتها كمن يعلق وردة على باب مغلق. أدركت أن المدينة التي تحفظ مكاناً لعبارة من رواية، تعرف أن الأدب ليس ترفاً بل ضرورة. فالكلمة يمكن أن تكون إنذاراً ضد الموت، أو وعداً خفياً بالحياة.
ربما لهذا، حين عدت إلى الفندق، كتبت رسالة قصيرة لصديقتي: «لو كنت هنا، لابتسمت. لأن المدن التي تحب أبناءها تعرف كيف تعالجهم بالأدب، لا بالعقاقير.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد