بخط الصفر .. الكتابة الوجود

mainThumb

09-10-2025 02:23 PM

بين نيسان/إبريل 2001، والسابع من أكتوبر 2023، شنّت «إسرائيل» 11 حربًا على قطاع غزة، ذهب ضحيتها آلاف الشهداء، وكانت نسبة عدد الأطفال بينهم هي الأعلى، كما في كل حرب شُنّت على الفلسطينيين. من بين هذه الحروب كانت حرب تموز/يوليو من عام 2014 التي نفذ فيها الجيش الصهيوني أكثر من 60 ألف غارة على هذه البقعة الصغيرة من فلسطين.
في تلك الأيام نشرتْ الصحافيّة سما حسن على صفحتها في الفيسبوك، يوميات كانت تواظب على كتابتها، تتحدث فيها عن مشاغلها، مشاغل أُمّ فلسطينية وسط الحرب، يوميات لا بطولات فيها ولا تَغَنّ بالشجاعة؛ إنها حكايات الناس في يومهم تحت النار؛ حكاياتهم البسيطة، خوفهم، وأحزانهم النبيلة، وتوقهم للحظات مسروقة بين غارتين، لحظات يمكن أن يتفقّدوا فيها أولادهم وأجسادهم، ويتمتعوا بعذوبة الصمت الذي بات مفقوداً، ولإحصاء ما تبقى لهم من جرعات ماء وحبات دواء وأحباء استشهدوا أو أحباء ما زالوا بعد على قيد الحياة.
أُسرة صغيرة من خمسة أفراد لا غير، يتحرّكون في حيز ضيق: بيت مشرعة جهاته على موت طليق ينتقي ضحاياه على مهله، لا شيء يبدّد أحزانه سوى صرخات الضمائر الحية في هذا المكان أو ذاك.
يومها كتبتُ لسما، إذا واصلتِ الكتابة سأعمل على نشر يومياتك في كتاب. فرحتْ، لكنها ذات يوم وقد اشتد القصف، خافت أن تُقتل ومعها أولادها، فأرسلتْ إليّ كل ما كتبتْهُ ليكون أمانة عندي، أنشره، إن قُتِلتْ.
نجت سما من تلك الحرب، وواصلت الكتابة وأرسلتْ كل ما كتبتْه لي، فتمّ نشر كتابها مع مقدمة حول قصة الكتاب.
بين حين وحين، تظهر سما على صفحتها حين تنشر شيئاً، يقول في النهاية: لم أزل بعد على قيد الحياة، وهذا ما فعله في هذا الكتاب 19 كاتباً، حين أرسلوا نصوصهم لدار «طباق» لتتجمع في كِتاب، كُتّاب لا نعرف من بقيَ منهم على قيد الحياة ومن استُشهد، من يستطيع مواصلة الكتابة أو لحق به ضرر أبعده عنها.
لقد كانت الكتابة الفلسطينية دائماً فِعْل وجود، يقول فيه الكُتّاب الفلسطينيون إننا لم نزل هنا، أحياء، وشعبنا لم يزل حيًّا. بالتأكيد، هي فعل فني يحرص الكاتب الفلسطيني عليه كثيراً، لكن الحاجة لفعل الوجود تتضاعف في الحرب، وهل هناك حرب أكبر من حرب الإبادة؟! حيث يغدو محو البشر والمكان والتاريخ هدفًا رئيسيًا للجيش الصهيوني: يمحو المربعات السكنية واحدًا بعد الآخر، بغضّ النظر عن كثافة البشر الموجودين فيها والتي هي أعلى نسبة كثافة للبشر في أي مكان في العالم.
لقد تم خلال السنتين الماضيتين من هذه الحرب تدمير كل الجامعات، المدارس، المراكز الثقافية والأثرية، الحقول، المؤسسات العامة، المستشفيات، مصادر المياه والكهرباء، وكل ما يمكن أن يساعد الفلسطينيين على الحياة.
يبكي المرء حين يعرف أن أكثر من ستين شاعرًا وشاعرة وفنانًا وفنانة فلسطينيين قد تمّ قتلهم خلال السنة الأولى من هذه الحرب (هناك أرقام تشير إلى أن عددهم تجاوز الآن 150) كان يمكن أن يقدموا الكثير من الجمال لهذا العالم، ويبكي وهو يشاهد رسامين يحرقون لوحاتهم لكي يُدفئوا أطفالهم في ليالي البرد، أو يستطيعوا إعداد وجبة فقيرة لأسرهم، إن استطاعوا الوصول إلى حفنة عدس أو فول أو فاصوليا، هذا إن وجدوا الماء.
هؤلاء الذين يضمُّ هذا الكتابُ نصوصهم، كثير منهم كانوا أطفالاً ونجوا بأعجوبة من تلك الحروب التي شنت على غزة، هؤلاء رأوا الكثير، بحيث لا يستطيع الإنسان إلّا أن يسأل: كم حربًا يمكن أن يحتملها القلب البشري خلال الزمن الذي يظل فيه نابضًا؟
في الحقيقة، لا أحد ينجو من آثار الحرب، لا أحد أبدًا، يمكن أن يقول إنه لم يمُتْ، لأن أشياء كثيرة فيه تموت، ليس بالضرورة أن تكون ذراعًا فقدها، أو ساقًا، أو عينًا، أو كل هذه الأشياء مجتمعة، بل كل ما يفقد من أحبة: أُمًّا، أبًا، أختًا، أخًا، ابنًا، ابنة جدة، جدًا، حبيبة، حبيبًا… أو من يفقد عائلته بأكملها، وما أكثر هؤلاء! أو مثل الطبيبة الفلسطينية، آلاء النجار، التي بينما كانت تعالج الجرحى جاءها خبر استشهاد تسعة من أطفالها في غارة واحدة، أو كل أولئك الذي يعتصر أرواحهم اليأس والحزن كما يعتصرها «أمل» لا يجرؤون على نطق اسمه، لفرط ما أصبح هذا الأمل مخيفًا:
وكنّا على ثقة ليس أقسى علينا من اليأس.. إلّا الأمل.
لذا، تبدو الكتابة هنا معجزة، وهؤلاء الكتاب يصرّون، حين يكتبون، أنهم فوق هذه الإبادة لا تحتها، وفوق كل هذا الدمار لا تحته، وهم ينشرونها، وهم يصرّون على أنهم لن يتنازلوا عنها تحت النار.
ذات يوم ستنتهي هذه الحرب، كما تنتهي كل حرب، وعلينا أن نفتح أعيننا جيداً على تلك التراجيديا الإنسانية القادمة من غزة، وهي تتقدّم نحونا، آلاف الضحايا النازفون، والكتّاب المجروحون بكل ما عاشوه، والأطفال الذين سيكونون كتابَ وفناني المستقبل، هؤلاء الذين يسحق الرعب والموت قلوبهم الآن بكل وحشية، هؤلاء الذين سيقولون لنا: أيّ جحيم هذا الذي تركنا العالم في داخله طوال هذه الحرب؟ وأيّ عيون هذه التي يمكن أن نرى فيها العالم من جديد، ببحاره، وسهوله، وجباله وأنهاره بعد أن عبأت هذه الإسرائيل أعيينا بالدم والأشلاء وآلاف الشهداء؟ وأي آذان هذه التي سنتمكن بها من أن نسمع طائرًا يغني، أو مطرًا يهطل، أو أغنية طيبة عن صباح طيب يشبه الحياة التي منحنا إياها الله، وسلبتها منا قنابل الـ 2000 طن، ودبابات ميركافا، وطائرات أف 15، و 16، و.. وكل تلك الأسلحة التي لم نكن نعرف أسماءها؟
هل ستنتهي هذه الحرب؟/ لا لن تنتهي.
هل ستنتهي هذه الإبادة؟/ لا لن تنتهي.
فكل من عاش هذه الحرب/ الإبادة، سيظل يعيشها.
وبعــــد:
كتب الشاعر رفعت العرعير، الذي قتله الجيش الإسرائيلي بعد شهرين من بدء هذه الإبادة:
«إذا كان لا بدّ أن أموت/ ‏فلا بد أن تعيش أنت ‏لتروي حكايتي»
ما الذي كان يمكن أن يكتبه العرعير اليوم، والإبادة تبلغ العامين، الإبادة التي أصبح عمرها ربع مليون شهيد وجريح؟ ومن سيستطيع كتابة حكايات كل هؤلاء الشهداء والجرحى والأيتام؟
وما الذي ستكتبه الشاعرة والروائية الشهيدة هبة أبو ندى، التي قُتلت بعد عام من هذه الإبادة، بعد أن نشرت على صفحتها: «نحن في الأعلى نبني مدينة ثانية، أطباء بلا مرضى ولا دماء، أساتذة بلا ازدحام وصراخ على الطلبة، عائلات جديدة بلا آلام ولا حزن، وصحافيون يصورون الجنة، وشعراء يكتبون في الحب الأبديّ، كلهم من غزة، كلهم. في الجنة توجد غزة جديدة بلا حصار تتشكّل الآن».
ما الذي سيكتبه 19 كاتباً وكاتبة بعد كتابهم هذا، بعد أن تركناهم وحيدين كل هذا الوقت يصرخون، من دون أن يسمع هذا الكون صرختهم، ويوقف شلال الدّم؟
مقدمة الطبعة الإنجليزية من كتاب «بخط الصفر» يصدر قريباً.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد