أفغانستان وحلف شمال الأطلسي : 17

mainThumb

04-01-2014 06:14 PM

أفغانستان وحلف شمال الأطلسي  : 17

" النموذج الآخر للإمبراطوريات المهزومة "

الإنخراط  في مفاوضات مباشرة من جانب حلف شمال الأطلسي مع حركة طالبان  باتت أمرا واقعا ، وقبل الذهاب الى سيناريو المفاوضات ينبغي علينا ان نتوقف برهة من الزمن أمام مشهد الغزو الأطلسي لإفغانستان ، وكيف تطور ذلك المشهد ، الى درجة اعلان كافة دول العالم تحالفها مع القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي ، وكيف تعاطت حركة طالبان منذ الساعات الأولى لأحداث (11 سبتمبر/ايلول 2001) مع تلك الأحداث ، لنقف معا على سيناريو مليء بالمفاجئات والأحداث والأهوال  ، ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن مجريات الهجمة الشرسة التي قادتها الولايات المتحدة ضد حركة طالبان وتنظيم القاعدة ، ولا الحديث عن الخسائر البشرية التي تكبدتها الحركة ، ولا عن انتصار التحالف الشمالي الأفغاني مع حلف الأطلسي في احتلال العاصمة الأفغانية "كابل" وبقية المدن الأخرى ، بل لنقف عند مشهد غير متكافيء ، تماما مثل استخدام السيوف الخشبية مقابل قنابل النابالم القاتلة ، او امام طائرة ورقية يقابلها طائرة "ب 52 B52" العملاقة ، مشهد مليء بالغرابة ومليء بالمفارقات العجيبة ، والمفارقة الأكثر عجبا هي نتيجة هذا الصراع الطويل الذي استمر اكثر من 12 عاما متواصلة ، اعتبرها الخبراء العسكريون الأمريكان من أطول الحروب التي خاضها الجيش الأمريكي في تاريخه .

سارعت حركة طالبان لإدانة الهجمات على نيويورك وواشنطن منذ لحظات حدوثها الأولى في (11 سبتمبر/أيلول 2001) ، حيث نفى المتحدث باسم الحركة ان يكون لحركة طالبان او لتنظيم القاعدة أي صلة بتلك الهجمات ، مؤكدا على ان الهجمات أقوى بكثير من إمكانيات طالبان او اسامة بن لادن ، كما أكد وزير خارجية طالبان "وكيل أحمد متوكل " ان حركة طالبان لن تسلم "بن لادن" الى الولايات المتحدة مهما حل لأفغانستان ، في نفس الوقت ، أشار سفير طالبان في إسلام أباد "عبدالسلام ضعيف" أن طالبان تفكر في امكانية تسليم "بن لادن" اذا ثبت تورطه في الهجمات ، بل وأعلن عن استعداد حركته للتعاون التام في التحقيقات مع الولايات المتحدة لمعرفة المسؤول عن الهجمات ، مؤكدا خضوع "بن لادن" للإقامة الجبرية ، وفي (13 سبتمبر/أيلول 2001)(الجزيرة ) أذاع  صوت الشريعة التابعة لحركة طالبان خبرا مفاده :"أن الحركة أعربت عن استعدادها لتسليم "بن لادن" الى محكمة إسلامية اذا أثبتت الولايات المتحدة إدانته في الهجمات التي تعرضت لها كل من واشنطن ونيويورك ، في نفس الوقت اطلقت حركة طالبان تحذيرات شديدة اللهجة في ( 15 سبتمبر /ايلول 2001) (الجزيرة) الى جيرانها من مغبة المشاركة في الهجوم الأمريكي عليها ، وهددت برد عنيف ومهاجمة اي دولة مجاورة تساعد واشنطن على توجيه ضربة عسكرية لأفغانستان ، في حين دعا "المُلا محمد عمر " زعيم حركة طالبان  المسلمين في أفغانستان وكل انحاء العالم لمواجهة التهديدات الأمريكية بالحرب الشاملة  والاستعداد للجهاد دفاعا عن "دينهم "، وتلبية لدعوة زعيم حركة طالبان ، صادق مجلس شورى علماء المسلمين في أفغانستان يوم(20 سبتمبر/ايلول 2001)(الجزيرة) على توصية يناشد فيها "أسامة بن لادن" مُغادرة أفغانستان طواعية ، ويقرر المجلس إعلان الجهاد في حال وقوع هجوم أمريكي على البلاد ، وجاء رد الإدارة الأمريكية سريعا على تلك الخطوات التي اعلنها مجلس شورى طالبان ، وعلى لسان المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض ، يقول :"ان قرار مجلس علماء افغانستان لا يلبي المطالب الأمريكية ، ويطالب كابل بتسليم "بن لادن" وقيادات تنظيم القاعدة وإغلاق ما أسمته بمعسكرات تدريب الإرهابيين في أفغانستان "، بينما قامت حركة طالبان من جانبها برفض دعوة "جورج بوش" لتسليم "بن لادن" والتي اعلنها في ( 21 سبتمبر/ايلول 2001) (الجزيرة ) ، واعتبر سفير طالبان في باكستان " عبدالسلام ضعيف" أن تسليم "بن لادن" غير ممكن، معتبرا طرد "بن لادن" "إهانة للمسلمين " ، ويبدو ان المرونة التي اعتمدتها حركة طالبان في التعامل مع الأزمة ، وقبول تسليم "بن لادن" اذا ثبتت إدانته" ، لم تلق قبولا لدى الإدارة الأمريكية ، وكأنها اتخذت من وجود "بن لادن" على أرض أفغانستان ذريعة للهجوم عليها واسقاط حركة طالبان من جهة ، وإضعاف باكستان النووية من جهة ثانية .

ومع تداعيات الأحداث وتطورها ، أعلنت الإمارات العربية المتحدة في (22 سبتمبر/ايلول 2001،الجزيرة) قطع علاقاتها الدبلوماسية مع حركة طالبان ، لما وصفته من عدم تجاوب حكومة طالبان مع الإرادة الواضحة للمجتمع الدولي بتسليم "بن لادن" ، بينما التزمت السعودية الصمت ، واعلنت باكستان من جانبها على ابقاء علاقاتها الدبلوماسية مع حركة طالبان في أفغانستان ، ومع تسارع الأحداث ، أعلنت المملكة العربية السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع حركة طالبان في (25 سبتمبر/ايلول 2001، الجزيرة) وهي ثاني دولة في العالم تقطع علاقاتها مع طالبان ، من أصل ثلاث دول كانت تعترف بدولة طالبان الأفغانية ، وهي : باكستان ، والمملكة العربية السعودية ، والإمارات العربية المتحدة ، بينما قطعت باكستان علاقتها الدبلوماسية مع حركة طالبان عندما اتخذت حكومة "برويز مشرف" قرارا باغلاق سفارة طالبان في "إسلام آباد" في(22 نوفمبر/تشرين الثاني 2001) ،  وهذا يعني ان حركة طالبان فقدت الدول القليلة التي تعترف بها ، وباتت في عُزلة دولية عميقة وخطيرة جدا ، وهو مؤشر على اقتراب زوال الحركة واستئصال وجودها في افغانستان ، ومع تضييق الخناق على حركة طالبان الذي فرضه المجتمع الدولي عليها ، وتسارع وتيرة الحرب ، ونماء التحالف الدولي وتوسعه ، وقبول الراي العام العالمي فكرة احتلال أفغانستان والقضاء على طالبان ، مع كل ذلك ، ومع موعد اقتراب الضربات الجوية ، كانت تصدر تصريحات من قبل زعيم حركة طالبان "الملا محمد عمر" تُخالف كل التوقعات ، فقد أعلن في ( 30 سبتمبر/ايلول 2001، الجزيرة) عن تحديه للولايات المتحدة والملك الأفغاني السابق"ظاهر شاه" وهددهما بحرب جهادية إذا تمت الإطاحة بنظام طالبان ، وكان الملك الأفغاني السابق قد أعلن في (28 سبتمبر/ايلول 2001) عن تشكيل مجلس أعلى ومجلس عسكري استعدادا للإطاحة بنظام طالبان ، وبعدها أعلن الملك السابق ومعه التحالف الشمالي المناويء لطالبان :" أنهما توصلا الى إتفاق يهدف الى إسقاط حكم طالبان ، وبموجب الأتفاق دعا التحالف الى اجتماع للمجلس الأعلى للزعماء الأفغان يشمل ممثلي الطوائف والقبائل الأفغانية " .

والأمر الغريب ، ان حركة طالبان التي فقدت الاعتراف الدولي بها ، والتي باتت في مواجهة حملة عسكرية كبيرة لم يشهد لها تاريخ الحروب السابقة مثيلا ، أبدت شجاعة ورباطة جأش لا مثيل لها ، حتى اعتبرها البعض رقصة الذبيحة الأخيرة ، الموقف الذي اظهرته حركة طالبان حمل تهديدات لأي حكومة أفغانية مدعومة من الخارج بـ "حرب دامية " ، وقد اعلنت الحركة تفضيلها التفاوض مع الولايات المتحدة على شن حرب جديدة ضد أفغانستان ، جاءت هذه الدعوة في (2 اكتوبر/ تشرين الأول 2001،الجزيرة) ، سُدت كل الآفاق واُغلقت كل الأبواب امام حركة طالبان ، ولم يعد المجتمع الدولي مكترثا بما تعلنه حركة طالبان ، بقدر إستكمال التجهيزات الحربية للإنقضاض على طالبان والتخلص منها الى الأبد ، جاء رد المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية سريعا وحاسما ، حيث أعلن الرئيس الأمريكي "جورج بوش" عن بدء الحملة العسكرية ضد حكومة طالبان ، وذلك في الساعة 16,30 بتوقيت غرينتش (7 اكتوبر/ تشرين الأول 2001) ، حيث شنت السفن والطائرات العسكرية الأمريكية على طالبان ثلاث موجات من الغارات الجوية ، حيث قفت الطائرات الأمريكية المطار وساد الظلام مدينة كابل بسبب انقطاع التيار الكهربائي ، وأكدت وزارة الدفاع الأمريكية أن نحو 50 صاروخا من طراز "توماهوك" قد اطلقت من سفن وغواصات امريكية وبريطانية ، ومنذ هذا التاريخ والى ساعة كتابة هذه السطور والحرب مشتعلة في أفغانستان ، وعليه دخلت حركة طالبان في صراع من نوع جديد ، يختلف هذه المرة عن الصراع مع الاتحاد السوفيتي ، فهذا العدوان حاصل على تفويض الأمم العالمية برمتها بما فيها روسيا وباكستان الحليفة الاستراتيجية للحركة .

في ظل هذه الظروف الكارثية الصعبة التي بدأت تواجهها حركة طالبان الأفغانية ، أعلنت وكالة الأنباء الإسلامية الأفغانية :"أن حكومة طالبان قررت القتال حتى النهاية ، ضد القوات الغربية المهاجمة ، مؤكدة أنها لن تُغير سياستها " ، بينما صرح الناطق باسم حركة طالبان " الملا أمير خان متُقي" في أعقاب اجتماع الحكومة :" سنقاتل الأمريكيين كما قاتلنا الروس " ، ومن عجائب القدر ، أنه يوم (9 اكتوبر/تشرين الأول 2001) ، وبعد الهجمات الصاروخية المكثفة والمركزة  التي اطلقتها البوارج البريطانية والأمريكية على المدن الأفغانية الرئيسية ، أن ينجو زعيم حركة طالبان " الملا محمد عمر" من القصف الذي أصاب منزله في قندهار ، ودمر تدميرا كاملا " ، وكان لنجاته رسم ملحمة تاريخية عظيمة لأفغانستان في مواجهة اعظم امبراطورية عرفها التاريخ البشري ، الولايات المتحدة الأمريكية ، وفي ( 12 اكتوبر/تشرين الأول 2001، الجزيرة) نقلت وكالة الأنباء الأفغانية ،أن علماء الدين الأفغان أعلنوا "الجهاد " ضد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ، وذلك خلال خطب صلاة الجمعة في مساجد أفغانستان ، بل ذهب بعض علماء مدينة "جلال آباد" الى القول:" بان الأحداث الأخيرة أثبتت أن الرئيس الأمريكي "جورج دبليو بوش" هو الإرهابي الأول في العالم ، ويستحق ان يلقن درسا كالذي لقنه الأفغان للبريطانيين والروس " ، بينما وزير الإعلام في حركة طالبان "الملا قدرة الله جمال" تحدث "لرويترز" أن الولايات المتحدة تشن حربا ضد المسلمين والأفغان ، مضيفا ، أن أسامة بن لادن ليس القضية ، وأدرك الناس هذا من الجرائم التي يرتكبها الأمريكيون ، وان الجهاد سيستمر حتى النفس الأخير من أجل الدفاع عن وطننا وعن الإسلام "، وفي (16 اكتوبر/  تشرين الأول 2001،الجزيرة) رفضت الولايات المتحدة عرضا من وزير خارجية طالبان " وكيل أحمد متوكل" ، بوقف الحرب مؤقتا في أفغانستان ، الا ان الإدارة الأمريكية سارعت على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض " آري فليشر" :"أن الرئيس الأمريكي "جورج دبليو بوش" لا ينوي السير في هذا الإتجاه ، وهو لا يعتقد بان ذلك سيكون بناء " .

ومع استمرار القصف المُكثف والعنيف ضد مواقع حركة طالبان الأفغانية ، أعتبر وزير خارجية التحالف الشمالي "عبدالله عبدالله" أن الغارات الجوية الأمريكية على أفغانستان قضت على قدرة حركة طالبان على تنظيم وشن هجمات " ، وفي (28 اكتوبر / تشرين الأول 2001 ، الجزيرة) أعلن قائد حركة طالبان "الملا محمد عمر" في مقابلة صحفية :"أن المعركة الحقيقية في أفغانستان لم تبدأ بعد " ، وتعهد بتلقين الأمريكيين "درسا أشد مرارة من الذي تلقاه الروس " ، مجددا استعداده لمحاكمة "أسامة بن لادن" داخل أفغانستان او في ثلاث دول عربية بحضور مراقبين من منظمة المؤتمر الإسلامي والدول الغربية ، في حال تلقي طالبان لأدلة مؤكدة تثبت تورطه في الهجمات على الولايات المتحدة " ، الا ان كل هذه المطالب رفضت وضربت عرض الحائط ، واستمرت الهجمات العنيفة تدمر بالبنا التحتية لإفغانستان ، وتضيق الخناق على حركة طالبان وزعيمها "الملا محمد عمر " ، الى ان وصل الأمر ان تبعثرت حركة طالبان قيادة وأفرادا ، حتى فقدت سيطرتها على البلاد ، وامام هذا المشهد الخطير الذي أربك الحركة ، أعلن "الملا محمد عمر" في 1(13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، الجزيرة) دعوته لأنصاره الى التجمع ومقاومة تقدم قوات التحالف الشمالي ، وفي خطاب بثته وكالة الأنباء الإسلامية الأفغانية التي تتخذ من باكستان مقرا لها  وجهه الى مقاتلي الحركة :" عليكم طاعة أوامر قادتكم ، ويجب ان تعيدوا تجميع أنفسكم ، وتقاوموا وتقاتلوا " ، استمرت الأحداث تجري في اتجاه تفقد  فيه حركة طالبان كامل سيطرتها على الموقف ، بل لم تعد تسيطر على افرادها ، لإنقطاع اوصالهم وانعدام وسائل الآتصال بينهم ، الى درجة أجبر فيها "الملا محمد عمر" في (17 نوفمبر/تشرين الثاني 2001) وحسب ما نقلته وكالة الأنباء الأفغانية  الإسلامية ، للإعلان الى مقاتلي الحركة بالإنسحاب من قندهار الى الجبال الأفغانية ، مؤكدة الوكالة ان حركة طالبان ستخلي مدينة "قندهار " جنوب شرق أفغانستان في غضون 24 ساعة ، كما نقلت الوكالة عن مصادرها الخاصة :"أن "الملا محمد عمر" قرر تسليم مدينة قندهار الى أثنين من القادة السابقين من المجاهدين "، وفي ( 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2001، الجزيرة ) أعلن وزير الدفاع الأمريكي" دونالد رامسفلد" أن الولايات المتحدة ترفض التفاوض على مغادرة " الملا محمد عمر " لمدينة قندهار جنوب افغانستان ، مؤكدا على ان الولايات المتحدة الأمريكية ترفض مبدأ " الإستسلام المتفاوض عليه " ، موضحا ان القوات الأمريكية لن تسمح لـ " الملا محمد عمر " بمغادرة قندهار " ، وبذلك  أستدل الستار على حكومة طالبان في أفغانستان ، بعد سقوط المدن الأفغانية مدينة بعد الأخرى ، ولم يعُد "الملا محمد عمر " حاكما لأفغانستان ، بل أصبح مطاردا بين جبال قندهار ، مطلوبا حيا او ميتا من قبل القوات الأمريكية التي أحكمت سيطرتها على كامل الأراضي الأفغانية ، ولكي يسدل الستار نهائيا على وجود طالبان في أفغانستان ، اتفقت الفصائل الأفغانية المجتمعة في بون في ( 5 ديسمبر / كانون الأول 2001 ،الجزيرة ) على تعيين الزعيم البشتوني " حامد كرزاي" المقرب من الملك المخلوع "ظاهر شاه" ، رئيسا جديدا للحكومة الأفغانية الإنتقالية في مرحلة ما بعد طالبان ، وينص الإتفاق على أن تتسلم الحكومة الجديدة مهام عملها في الثاني والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2001 ".أسدل الستار على حركة طالبان وزعيمها "الملا عمر" ، وما عاد ممكنا او مقبولا مسألة التفاوض التي نادت اليها الحركة ، فالرغبة الأطلسية ليس لديها النية في التفاوض بقدر استئصال شأفة حركة طالبان والخلاص منها وما انصارها الى الأبد .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد