كان مهموما لدرجة لا تصدق ، بدا ذلك من نظرة الحزن العميقة التي كانت تنبعث من عينيه ، ومن حركة يده البطيئة ، ومن طريقة جلوسه ، ومن نبرة صوته الواهنة وهو يتساءل :
- هل أجد لديك الجواب الشافي لسؤال اقض مضجعي ، ويقضه ، منذ أصبح طفلي في السادسة ؟
تنبهت له بكل حواسي فأنا ممن تستهويهم الطفولة ويا كم قضيت الساعات الطوال وأنا أراقب الأطفال عن كثب وهم يمارسون هواياتهم وشيطنتهم .. أفكر في المستقبل الذي ينتظرهم ، أفكر كيف سيتصرفون إذا شبوا عن الطوق .. هل سينجحون في حياتهم ؟ هل .. هل .. حتى يأخذني التفكير بهم كل مأخذ .. ربما ذلك لإحساسي العميق بأننا جميعا مقصرون تجاههم .
تنبهت من شرودي على صوته القلق :
منذ أسابيع وأنا أقرأ عن الأطفال ولم أفز بطائل .
كتمت ضحكة كادت تخرج من صدري .. كنت قرأت في باب التعارف للأطفال الخبر التالي : الطفل فلان في الرابعة من عمره هوايته تكسير الصحون وتحطيم فناجين القهوة . ولم تلبث الحيرة أن استبدت بي حين تذكرت أنني قرأت عن طفل في الرابعة من عمره أيضا يقوم بحل أصعب العمليات الحسابية وهو بعد لم يتقن القراءة أو الكتابة .. أكمل صديقي : أريد طفلي أن ينشأ سويّا شاهدتهم في الغرب يعاملون الأطفال معاملة الندّ للندّ .
فكرت في نفسي : أجل معاملة الند للند حتى إذا بلغ السادسة عشرة وقبل أن يكتمل نضجه الفكري يفتح له والده الباب الخارجي على مصراعيه حتى إذا خطا خطوة واحدة إلى الخارج أغلق دونه الباب بارتياح .. هززت رأسي أستحثه على المضي في الحديث ، تساءل في حيرة ولكن هل هذه هي الطريقة المثلى للتعامل مع الأبناء ؟ أردت أن أقول له بأن في تعاليم ديننا ما يوفر علينا مؤونة المقارنة ولكنه سرعان ما اندفع في مقارناته المحمومة :
في كل بيت هناك حديقة وفي كل حي وفي كل بلدة .. وفي حديقة البلدة كل ما يخطر على بال طفل وأكمل قائلا :
هناك أسئلة كثيرة لا أجد لها جوابا شافيا مثلا نحن نقدم لأطفالنا جميع ما يحتاجون إليه ومع هذا لا ينجحون النجاح الذي نريد .. ضحكت هذه المرّة بصوت مسموع ..لقد تذكرت انني قرأت ذات يوم بأن سائحة أجنبية قابلت رئيس تحرير إحدى الصحف المشهورة ولما استقر بهما المكان سألها رئيس التحرير عن شهاداتها فأجابت بأنها تحمل دكتوراة في تربية الطفل وعندما استفسر منها عن المنصب الذي تشغله أجابت بهدوء : أنا أعلم الصف الأول الإبتدائي .
وكأن ضحكتي العريضة استفزت صاحبي مما جعلته يستنكر ويقول :
إذا كان حديثي لا يعجبك فلا تجعلني على الأقل هدفا لسخريتك .. فأنا لم أكن أحسب أن في الدنيا من يهتم بالطفولة كما أهتم أنا ولكنك .. لم أدعه يكمل قاطعته قائلا : جميعنا نهتم بالطفولة .. أليس طفلي وطفلك وأطفال الآخرين هم من عناهم الشاعر بقوله:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
وتركته وانصرفت ، فلا شفى هو غليله ولم أشف غليلي أيضا .